كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



لقد جعل الله سبحانه لإبليس وقبيله فرصة الإغواء. وجعل لآدم وذريته فرصة الاختيار تحقيقًا للابتلاء، الذي قضت مشيئته أن تأخذ به هذا الكائن؛ وتجعله به خلقًا متفردًا في خصائصه، لا هو ملك ولا هو شيطان. لأن له دورًا آخر في هذا الكون، ليس هو دور الملك ولا هو دور الشيطان.
وينتهي هذا المشهد، ليتلوه مشهد آخر في السياق:
ينظر الله سبحانه بعد طرد إبليس من الجنة هذه الطردة- إلى آدم وزوجه.. وهنا فقط نعرف أن له زوجًا من جنسه، لا ندري كيف جاءت. فالنص الذي معنا وأمثاله في القرآن الكريم لا تتحدث عن هذا الغيب بشيء. وكل الروايات التي جاءت عن خلقها من ضلعه مشوبة بالإسرائيليات لا نملك أن نعتمد عليها، والذي يمكن الجزم به هو فحسب أن الله خلق له زوجًا من جنسه، فصارا زوجين اثنين؛ والسنة التي نعلمها عن كل خلق الله هي الزوجية: {ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون} فهي سنة جارية وهي قاعدة في كل خلق الله أصيلة. وإذا سرنا مع هذه السنة فإن لنا أن نرجح أن خلق حواء يمكث طويلًا بعد خلق آدم، وأنه تم على نفس الطريقة التي تم بها خلق آدم..
على أية حال يتجه الخطاب إلى آدم وزوجه، ليعهد إليهما ربهما بأمره في حياتهما؛ ولتبدأ تربيته لهما وإعدادهما لدورهما الأساسي، الذي خلق الله له هذا الكائن. وهو دور الخلافة في الأرض- كما صرح بذلك في آية البقرة: {وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة} {ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة فكلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين}..
ويسكت القرآن عن تحديد {هذه الشجرة}. لأن تحديد جنسها لا يريد شيئًا في حكمة حظرها. مما يرجح أن الحظر في ذاته هو المقصود.. لقد أذن الله لهما بالمتاع الحلال، ووصاهما بالامتناع عن المحظور. ولابد من محظور يتعلم منه هذا الجنس أن يقف عند حد؛ وأن يدرب المركوز في طبعه من الإرادة التي يضبط بها رغباته وشهواته؛ ويستعلي بها على هذه الرغبات والشهوات، فيظل حاكمًا لها لا محكومًا بها كالحيوان، فهذه هي خاصية الإنسان التي يفترق بها عن الحيوان، ويتحقق بها فيه معنى الإنسان.
والآن يبدأ إبليس يؤدي دوره الذي تمحض له..
إن هذا الكائن المتفرد؛ الذي كرمه الله كل هذا التكريم؛ والذي أعلن ميلاده في الملأ الأعلى في ذلك الحفل المهيب؛ والذي أسجد له الملائكة فسجدوا؛ والذي أخرج بسببه إبليس من الجنة وطرده من الملأ الأعلى.. إن هذا الكائن مزدوج الطبيعة؛ مستعد للاتجاهين على السواء. وفيه نقط ضعف معينة يقاد منها- ما لم يلتزم بأمر الله فيها- ومن هذه النقطة تمكن إصابته، ويمكن الدخول إليه.. إن له شهوات معينة.. ومن شهواته يمكن أن يقاد!
وراح إبليس يداعب هذه الشهوات: {فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوآتهما وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين}..
ووسوسة الشيطان لا ندري نحن كيف تتم؛ لأننا لا ندري كنه الشيطان حتى ندرك كيفيات أفعاله، وكذا اتصاله بالإنسان وكيفية إغوائه. ولكننا نعلم- بالخبر الصادق وهو وحده المصدر المعتمد عندنا عن هذا الغيب- أن إغواء على الشر يقع في صورة من الصور؛ وإيحاء بارتكاب المحظور يتم في هيئة من الهيئات. وأن هذا الإيحاء وذلك الإغواء يعتمدان على نقط الضعف الفطرية في الإنسان. وأن هذا الضعف يمكن اتقاؤه بالإيمان والذكر؛ حتى ما يكون للشيطان سلطان على المؤمن الذاكر؛ وما يكون لكيده الضعيف حينئذ من تأثير..
وهكذا وسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوآتهما.. فهذا كان هدفه.. لقد كانت لهما سوآت، ولكنها كانت مواراة عنهما لا يريانها- وسنعلم من السياق أنها سوآت حسية جسدية تحتاج إلى تغطية مادية، فكأنها عوراتهما- ولكنه لم يكشف لهما هدفه بطبيعة الحال! إنما جاءهما من ناحية رغائبهما العميقة:
{وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين}..
بذلك داعب رغائب الإنسان الكامنة.. إنه يحب أن يكون خالدًا لا يموت أو معمرًا أجلًا طويلًا. كالخلود! ويحب أن يكون له ملك غير محدد بالعمر القصير المحدد..
وفي قراءة: {ملكين} بكسر اللام. وهذه القراءة يعضدها النص الآخر في سورة طه: {هل أدلكما على شجرة الخلد وملك لا يبلى} وعلى هذه القراءة يكون الإغراء بالملك الخالد والعمر الخالد وهما أقوى شهوتين في الإنسان بحيث يمكن أن يقال: إن الشهوة الجنسية ذاتها إن هي إلا وسيلة لتحقيق شهوة الخلود بالامتداد في النسل جيلًا بعد جيل- وعلى قراءة {ملكين} بفتح اللام يكون الإغراء بالخلاص من قيود الجسد كالملائكة مع الخلود.. ولكن القراءة الأولى- وإن لم تكن هي المشهورة- أكثر اتفاقًا مع النص القرآني الآخر، ومع اتجاه الكيد الشيطاني وفق شهوات الإنسان الأصيلة.
ولما كان اللعين يعلم أن الله قد نهاهما عن هذه الشجرة؛ وأن هذا النهي له ثقله في نفوسهما وقوته؛ فقد استعان على زعزعته- إلى جانب مداعبة شهواتهما- بتأمينهما من هذه الناحية؛ فحلف لهما بالله إنه لهما ناصح، وفي نصحه صادق: {وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين}!
ونسي آدم وزوجه- تحت تأثير الشهوة الدافعة والقسم المخدر- أنه عدوهما الذي لا يمكن أن يدلهما على خير! وأن الله أمرهما أمرًا عليهما طاعته سواء عرفا علته أم لم يعرفاها! وأنه لا يكون شيء إلا بقدر من الله، فإذا كان لم يقدر لهما الخلود والملك الذي لا يبلى فلن ينالاه!
نسيا هذا كله، واندفعا يستجيبان للإغراء!
{فدلاهما بغرور فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين}.
لقد تمت الخدعة وآتت ثمرتها المرة. لقد أنزلهما الشيطان بهذا الغرور من طاعة الله إلى معصيته، فأنزلهما إلى مرتبة دنيا: {فدلاهما بغرور}!
ولقد شعرا الآن أن لهما سوآت، تكشفت لهما بعد أن كانت مواراة عنهما. فراحا يجمعان من ورق الجنة ويشبكانه بعضه في بعض {يخصفان} ويضعان هذا الورق المشبك على سوآتهما- مما يوحي بأنها العورات الجسدية التي يخجل الإنسان فطرة من تعريها، ولا يتعرى ويتكشف إلا بفساد في هذه الفطرة من صنع الجاهلية!
{وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين}..
وسمعا هذا العتاب والتأنيب من ربهما على المعصية وعلى إغفال النصيحة.. أما كيف كان النداء وكيف سمعاه، فهو كما خاطبهما أول مرة. وكما خاطب الملائكة. وكما خاطب إبليس. كلها غيب لا ندري عنه إلا أنه وقع. وأن الله يفعل ما يشاء.
وأمام النداء العلوي يتكشف الجانب الآخر في طبيعة هذا الكائن المتفرد.. إنه ينسى ويخطئ. إن فيه ضعفًا يدخل منه الشيطان. إنه لا يلتزم دائمًا ولا يستقيم دائمًا.. ولكنه يدرك خطأه؛ ويعرف زلته؛ ويندم ويطلب العون من ربه والمغفرة.. إنه يثوب ويتوب؛ ولا يلح كالشيطان في المعصية، ولا يكون طلبه من ربه هو العون على المعصية!
{قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين}..
إنها خصيصة الإنسان التي تصله بربه، وتفتح له الأبواب إليه.. الاعتراف، والندم، والاستغفار، والشعور بالضعف، والاستعانة به، وطلب رحمته. مع اليقين بأنه لا حول له ولا قوة إلا بعون الله ورحمته.. وإلا كان من الخاسرين..
وهنا تكون التجربة الأولى قد تمت. وتكشفت خصائص الإنسان الكبرى. وعرفها هو وذاقها. واستعد- بهذا التنبيه لخصائصه الكامنة- لمزاولة اختصاصه في الخلافة؛ وللدخول في المعركة التي لا تهدأ أبدًا مع عدوه..
{قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين قال فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون}..
وهبطوا جميعًا.. هبطوا إلى هذه الأرض.. ولكن أين كانوا؟ أين هي الجنة؟.. هذا من الغيب الذي ليس عندنا من نبأ عنه إلا ما أخبرنا به من عنده مفاتح الغيب وحده.. وكل محاولة لمعرفة هذا الغيب بعد انقطاع الوحي هي محاولة فاشلة. وكل تكذيب كذلك يعتمد على مألوفات البشر اليوم وعلمهم الظني هو تبجح، فهذا العلم يتجاوز مجاله حين يحاول الخوض في هذا الغيب بغير أداة عنده ولا وسيلة. ويتبجح حين ينفي الغيب كله، والغيب محيط به في كل جانب، والمجهول في المادة التي هي مجاله أكثر كثيرًا من المعلومات!
لقد هبطوا جميعًا إلى الأرض.. آدم وزوجه، وإبليس وقبيله. هبطوا ليصارع بعضهم بعضًا. وليعادي بعضهم بعضًا؛ ولتدور المعركة بين طبيعتين وخليقتين: إحداهما ممحضة للشر، والأخرى مزدوجة الاستعداد للخير والشر؛ وليتم الابتلاء، ويجري قدر الله بما شاء.
وكتب على آدم وذريته أن يستقروا في الأرض؛ ويمكنوا فيها، ويستمتعوا بما فيها إلى حين. وكتب عليهم أن يحيوا فيها ويموتوا؛ ثم يخرجوا منها فيبعثوا.. ليعودوا إلى ربهم فيدخلهم جنته أو ناره، في نهاية الرحلة الكبرى..
وانتهت الجولة الأولى لتتبعها جولات وجولات، ينتصر فيها الإنسان ما عاذ بربه. وينهزم فيها ما تولى عدوه.
وبعد فإنها ليست قصة! إنما هو عرض لحقيقة الإنسان لتعريفه بحقيقة طبيعته ونشأته، والعوالم المحيطة به، والقدر الذي يصرف حياته، والمنهج الذي يرضاه الله له، والابتلاء الذي يصادفه، والمصير الذي ينتظره.. وكلها حقائق تشارك في تقرير مقومات التصور الإسلامي..
وسنحاول أن نلم بها بقدر ما يسمح منهج الظلال، ونبقي تفصيلاتها للبحث المتخصص عن خصائص التصور الإسلامي ومقوماته..
* إن الحقيقة الأولى التي نستلهمها من قصة النشأة الإنسانية، هي- كما قلنا من قبل- التوافق بين طبيعة الكون ونشأة الكائن الإنساني. والتقدير الإلهي المحيط بالكون والإنسان؛ والذي يجعل هذه النشأة قدرًا مرسومًا لا فلتة عارضة، كما يجعل التوافق بينهما هو القاعدة.
والذين لا يعرفون الله سبحانه، ولا يقدرونه حق قدره، يقيسون أقداره وأفعاله بمقاييسهم البشرية الصغيرة. فإذا نظروا فوجدوا الكائن الإنساني مخلوقًا من مخلوقات هذه الأرض. ووجدوا هذه الأرض ذرة صغيرة كالهباءة في خضم الكون. قالوا: إنه ليس من المعقول! أن يكون وراء نشأة هذا الإنسان قصد؛ فوق أن يكون لهذا الإنسان شأن في نظام الكون! وزعم بعضهم أن وجوده كان فلتة، وأن الكون من حوله معادٍ لنشأته ونشأة الحياة جملة!.. وإن هي إلا تخرصات منشؤها قياس أقدار الله وأفعاله بمقاييس البشر الصغيرة!
وحقًا لو كان الإنسان هو الذي له هذا الملك الهائل ما عني بهذه الأرض، ولا بمثل هذا الكائن يدب عليها! لأن اهتمام الإنسان لا يتسع للعناية بكل شيء في مثل هذا الملك الهائل؛ ولا بتقدير كل شيء فيه وتدبيره، والتنسيق بين جميع الأشياء فيه.
غير أن الله سبحانه هو الله! هو الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض. هو صاحب هذا الملك الكبير الذي لا يقوم شيء منه إلا برعايته؛ كما أنه لم يوجد منه شيء إلا بمشيئته.. إنما آفة هذا الإنسان، حين ينحرف عن هدى الله ويستقل بهواه- ولو كان يسميه علمًا!- أن ينسى أنه الله. ويتصوره سبحانه على هواه! ويقيس أقداره وأفعاله بمقاييس الإنسان الصغيرة! ثم يتبجح فيملي هواه هذا على الحقيقة!